حرية التعبير فكيف تعامل الإسلام مع هذه الحرية وما هي الضوابط التي تحدّها؟
التحدث عن الحرية وبخاصة حرية التعبير والفكر والبيان قديم وجديد، فلقد شغل الفلاسفة والحكماء والعلماء والكتاب والصحفيون المتنورون من عامة الشعوب بهذا الموضوع.... فكيف تعامل الإسلام مع هذه الحرية وما هي الضوابط التي تحدّها؟
مقدمة:
إن التحدث عن الحرية وبخاصة حرية التعبير والفكر والبيان قديم وجديد، فلقد شغل الفلاسفة والحكماء والعلماء والكتاب والصحفيون المتنورون من عامة الشعوب بهذا الموضوع، لأن الدعوة إلى الحرية شيء جذاب، وتستقطب أنظار العالم على مختلف المستويات والمتحدثون عن الحرية يترددون بين الحماسة في إطلاق الحرية الفكرية وغيرها، وبين التعقل وضبط مفهوم هذه الحرية وتقييدها لاعتبارات عامة تستدعي ضرورة تفعيلها في حدود المعقول وإفساح المجال لها لدى الآخرين حيث أن الحرية تنتهي عند بدء حرية الغير، أو لاعتبارات خاصة تتطلب ضبطها بقواعد النظام العام والآداب المرعية والقيم الدينية ومتطلبات الرسالات الإلهية.
وازدادت الحاجة إلى تبيان أفق الحرية في عصرنا الحاضر على الرغم من تطور العقل البشري، واتساع آفاق العلوم، وَوجود الأنظمة المقررة لصالح الأفراد والشعوب أنفسهم في النطاق المحلي لكل دولة على حدة، وبسبب مصادرة الحرية في بعض الدول أو إساءة استعمالها لدى بعض الناس.
فلقد أساء بعض الأفراد فهم الحرية، وسلكوا مسالك وعرة، وحينما توهموا أن الحرية ولاسيما الحرية الفكرية تقتضي العمل المتحرك أو التفكير من غير ضوابط ولا قيود، فصدموا المشاعر الإنسانية، وهزوا معايير القيم العليا، وعاثوا في الأرض فسادًا زاعمين أنهم مصلحون أو مجددون، وهم مخطئون، ويشملهم النص القرآني الكريم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103-104].
أمام هذا الجدل القديم والحديث وأمام ظاهرة الشذوذ الفكري في فهم الحرية، ومنها بالذات الحرية الفكرية، لا بد من تصحيح مسار الفكر الإنساني المتورط في الخطأ الفكري أو السلوك العملي حول تصور مفهوم الحرية، ولعل هذا البحث ينير الطريق في مخيلة أنصار الحرية والاستظلال في مظلتها، من غير ترو، ولا حكمة ولا تعقل ولا وعي لمخاطر الزيغ عن حقيقة مفهوم الحرية أو الإخلال بحقوق الإنسان، ومن أهمها حق الحرية.
وهذا يقتضي بحث ما يأتي:
- مفهوم الحرية.
- مدلول حرية الفكر (أو التعبير).
- الحرية الفكرية أو حرية التعبيروغيرها من الحريات.
- أفق الحرية الفكرية أو حرية التعبير وضوابط استعمالها في معيار الإسلام.
- الحرية في مفهوم الأديان والحضارات.
- حرية الاعتقاد (أو المعتقد).
- حرية التجنس والإقامة.
أولاً : مفهوم الحرية:
1- المعنى اللغوي للحرية:
جاء في مختار الصحاح: الحر ضد العبد، وحر الوجه: ما بدى من الوجنة، والحرة الكريمة، والحرير: نوع من الثياب، وحر الرجل يحر حرية من حرية الأصل، وتحرير الكتاب وغيره تقويمه، وتحرير الرقبة عتقها، وتحرير الولد: أن تفرده لطاعة الله وخدمة المسجد، أقول ومن هذا المعنى جاء في القرآن الكريم على لسان امرأة عمران أم مريم عليهما السلام: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران: من الآية 35].
وفي القاموس إضافة لما سبق من معان: "حري: خيار كل شيء والحرية: الفعل الحسن، حرة السحاب: الكثيرة المطر والأرض اللينة الرملية، ومن العرب أشرافهم"
ونستخلص من هذه المعاني أن الحرية في أصل اللغة تعني: الانطلاق، والشرف، والكرامة، والاستقامة، وفعل الخير، والعطاء الكثير، والمرونة، والخدمة النبيلة [الفيروز آبادي، القاموس المحيط، 2/14].
2- المعنى الشائع للحرية:
من خلال المعاني المذكورة نفهم ماذا تعني الحرية حين تطلق على الألسنة في كل ميدان في هذه الأيام ونقول: هي أن للإنسان أن يختار ما يشاء من سلوك في قول أو فعل أو اعتقاد، دون أن يرهب أحد من الخلق، أو يتأثر بضغط أو يمارس عليه إكراه طالما أن تصرفه ضمن قواعد وضوابط تحقق النبل والارتقاء، وتعود بالنفع على الفرد والمجتمعات.
3- الحرية في المفهوم الإسلامي:
هي ما يميز الإنسان عن غيره، ويتمكن بها من ممارسة أفعاله وتصرفاته بإرادة واختيار، من غير قسر ولا إكراه، ولكن ضمن حدود معينة، أهمها تحقيق الصالح العام، وتجنب الإفساد، وإضرار الآخرين.
4- المفهوم القانوني للحرية:
الحرية كما حددتها المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان الفرنسي الصادر سنة 1789م، هي قدرة الإنسان على إتيان كل عمل لا يضر الآخرين.
وكلا المفهومين الوضعي والإسلامي يُقرّران أن الحرية ليست مطلقة بلا حدود ولا قيود وإنما هي مقيدة بعدم إضرار الآخرين، بل إن المفهوم الإسلامي يزيد عن ذلك وهو ضرورة إعمال الحرية فيما ينفع الإنسان ذاته باعتدال، وينفع غيره من الأمة فيما يعود عليها بالخير والمصلحة، ويرشدها إلى اختيار الطريق الأقوم أو الأرشد في مستقبل الأيام، فالقيد المتفق عليه سلبي، والقيد الذي يضيفه الإسلام إيجابي أيضاً.
وحينئذ، لابد من إيراد قيود واستثناءات بقصد تنظيم الحرية نفسها، وهذا التنظيم قد يتخذ صبغة وقائية، كاستئذان الدولة في استعمال الحرية، وقد يأخذ صورة علاجية أو جزائية، بفرض عقوبات وجزاءات مدنية أو جنائية على الإسراف في ممارسة الحريات الشخصية أو الفردية إسرافاً يترتب عليه إضرار بالآخرين [د. عثمان خليل و د. سليمان الطماوي، موجز القانون الدستوري، ص366]. وكذلك للحرية في الإسلام معنى اجتماعي يقتضي قيدين هما [د عبد السلام الترمانيني، حقوق الإنسان في نظر الشريعة الإسلامية، ص:28].
الأول:
قيد داخلي ينبعث من صميم النفس، يتطلب إخضاع النفس والسلوك لحكم العقل والضمير، وتقييد حرية الإنسان في إتباع الأهواء والشهوات، ومن أبرز مظاهر هذا القيد الحياء، فإنه شعبة من الإيمان.
الثاني:
قيد خارجي عن النفس ينظمه القانون، بسبب ضعف القيود النفسية الداخلية، وهو في الواقع حماية للحرية، لا تقييد لها.
وفي الجملة: الحرية ليست مطلقة، من حيث الزمان والمكان، وإنما هي مقيدة بمقتضيات الحياة السوية والموزعة حقوقها على الجميع، وهذه المقتضيات في المفهوم الإسلامي خمسة: المساواة، والفضيلة، والعدل، والحق، والخير والإيثار، والابتعاد عن الضرر والإضرار.
ثانياً:
مدلول حرية الفكر والبيان أو التعبير:
الحرية ولاسيما حرية الفكر والبيان أحد حقوق الإنسان الكبرى، والتي هي معبرة عن تطلعات الفطر الإنسانية، وضرورات العيش المشترك في مجتمع أو جماعة.
وحرية الفكر والبيان أحد أو أهم أنواع الحرية، ومعناها إفساح المجال لكل إنسان في أن يفكر أو يتأمل بمقتضى محاكمته العقلية لاختيار منهج أو سلوك له في حياته، ثم يعبر عن وجهة نظره بمختلف وسائل التعبير الشفهية أو الكتابية، سواء في القضايا الخاصة أو العامة، الاجتماعية أو الثقافية أو الاقتصادية أو السياسية، من أجل تحقيق النفع أو الخير للأمة.
ولقد دعا الإسلام في مصدريه الأساسين (القرآن والسنة) إلى استعمال الفكر والعقل في جميع أمور الدنيا والدين، للتحرر من ربقة التقليد الأعمى للآباء والأجداد في بناء العقيدة، والاهتداء على الحق الذي لا يقبل الله سواه، وإثبات استقلال الذات أو الشخصية، ولتحمل مسؤولية الإنسان قراره في اختيار الطريق السوي أو المعوج، ومن أجل بناء الحياة الإنسانية وتقدمها، وعمران الكون، وبقاء النوع البشري القوي، وذلك في نصوص قرآنية كثيرة تدعو إلى إعمال الفكر والعقل وتفعيل دور العلم في نواحي الكون، وقد تستعمل في القرآن بدلا من لفظ الحضارة تعابير القلب، والبصيرة، والبصر، والسمع، والفؤاد ونحوها من مفاتيح المعرفة، مثل قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]. وقوله سبحانه وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
وإعمال الفكر والعقل ظاهرة شائعة في نهايات كثيرة من آيات القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: من الآية 24]. وقوله عز وجل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: من الآية 28]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: من الآية 12].
وأكدت السنة النبوية قولاً وفعلاً على ترجمة هذه الظاهرة إلى واقع عملي في أحاديث كثيرة منها: «لا تكونوا إمعة -أي تقولون: نحن مع الناس في اتجاههم دون تبين الحق- تقولون: أن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا» [أخرجه الترمذي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: وقال: هذا حديث حسن غريب، الترمذي، سنن الترمذي، ج3 ص 246. برقم 1352].
ومنها: «كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا» (أي تردعونه وتحملونه على الحق وترك الباطل) [أخرجه أبو داود بهذا اللفظ، والترمذي، وقال: حديث حسن غريب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. أبو داوود، سنن أبي داوود ج2 ص 365، وانظر: الترمذي، سنن الترمذي، ج2 ص 189 برقم 367].
ودعا الإسلام أيضاً إلى حرية التعبير عن الرأي، ابتداء أو نقدا بناء، سواء في مجال تلمس الخير والمصلحة والصواب في قضايا الدين، أو من اجل رعاية مصالح المسلمين عامة.
ومارس المسلمون الحق في البيان وإبداء الرأي بالقول أو الكتابة أو بغيرهم سواء في العهد النبوي، أو أثناء الخلافة الراشدة، أو في عصر التابعين وفي ممارسة أئمة الاجتهاد لاجتهادهم في العصور المتلاحقة حتى في عصرنا الحاضر، دون أن يخافوا من الله لومة لائم، لتأييد الحق أو الدلالة عليه، أو التحذير من مغبة أو مخاطر الرأي الخطأ، أو الإرشاد إلى ما هو مصلحة، وتجنب ما هو مفسدة أو مضرة، وأسلوب التعبير عن الرأي مكفول في الإسلام، سواء بالقول أو بالكتابة والنشر، أو بالرسم أو التسجيل أو التظاهر أو التمثيل المباح.
ولم يمنع الإسلام من وجود ظاهرة المعارضة أو الخلاف في الرأي بنحو فردي أو جماعي -حربي مثلاً- فهي حق طبيعي، من أجل تبين وجه السداد أو الصواب، وتحقيق مصلحة الأمة وموازنة الأمور وتقييم المواقف والآراء، اندفاعاً من واجب الإخلاص، والعمل بمقتضى شرع الله تعالى، لا انتصاراً للحظوظ النفسية والأهواء والشهوات، فالمعارضة في الإسلام هي معارضة مواقف، لا معارضة مبادئ تشد عن الخط الإلهي العام الذي يُراد به ضمان المصالح ودرء المفاسد.
ثالثاً:
الحرية الفكرية أو حرية التعبير وغيرها من الحريات:
الحرية الفكرية أعم وأشمل من الحرية الدينية، فهي ثلاثة أنواع: الحرية العلمية، والحرية السياسية، والحرية الدينية [أ. عبد المتعال الصعيدي، حرية الفكر في الإسلام، ص6 وما بعدها].
أما الحرية العلمية:
فهي إطلاق سلطان العلم، أو هي منح الحق لكل إنسان في تقرير ما يراه بصدد الظواهر الفلكية والطبيعية، وكل ما يتعلق بشؤون الجماد والنبات والإنسان والحيوان.
وهذه الحرية مكفولة في الإسلام، ولاسيما العلم التجريبي، قال الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17-20].
ومما لا شك فيه أن ممارسة هذه الحرية المعتمدة في سلطتها على العقل ضرورية لأي تقدم وتطور أو ابتكار وإبداع، ونحن بأشد الحاجة إليها.
وينبغي ملاحظة أن العلم (أو النظريات العلمية) لا يمكن بأي حال من الأحوال إذا صحت مقتضياته ودوافعه وأساليبه وغاياته، لا يمكن أن يتعارض مع الدين، فالدين شيء قطعي، وإذا كان العلم قطعياً فلا يتعارض مع أي قطعي آخر، وبغير التحرر العلمي تتعطل شؤون الحياة، وتقف عجلة التقدم، وحركة الإبداع.
وأما الحرية السياسية:
فهي حق الإنسان في المشاركة في شؤون تدبير قضايا الحكم وإدارة البلاد، وتسيير مصالح الدولة والأمة، والإسلام يُقرّ أيضاً بهذه الحرية ويجعل للإنسان الحق الكامل في ممارستها، منعاً من استبداد الحاكم، وإبعادا لكل مظاهر الظلم والطغيان، وحفاظا لكيان الدولة نفسها وضمان لمصلحة الأمة، حتى ولو كان في إبداء الرأي مساس بشخص الحاكم وتوجيهاته.
وأما الحرية الدينية:
فهي حق الإنسان في اختيار عقيدته الدينية، ولقد قامت دعوة الإسلام على احترام هذه الحرية وصونها قولاً وعملاً، فكراً وممارسة، مدنياً في المعاملات، وقضائياً في مظلة المحاكم، حيث تحميها سلطة الدولة وتمنع أي واحد من تجاوزها، وليس لأي إنسان حاكم أو رعية استخدام القوة أو الإكراه في فرض العقيدة على أحد.
كل ما في الأمر أنه لا مانع من الحوار أو النقاش أو الدعوى إلى الدين الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدل بالتي هي أحسن، كما أن هذه الحرية مسؤولية، حيث يسأل كل إنسان أمام ربه عن نتيجة ممارسته، فإن أصاب الاعتقاد الصحيح نجا وإن تعثر وزاغ أو انحرف، وجب عليه تغيير معلوماته ومعارفه واستعمال وسائل معرفة جديدة لتبين وجه الحق والصواب فإن أصر على الخطأ وتأثر بعوامل البيئة وتقليد الآباء والأسلاف، كان مسؤولاً عن خطئه.
وحينئذ ينبغي عدم الخلط بين ممارسة حرية الإنسان، وبين سلامة النتيجة التي يتخذها، فلا تلازم بين الأمرين، على عكس ما يتصوره السذج والبسطاء، لأن معيار الحكم على قرار الحر هو في مدى إصابته للحق وعدم الإصابة وإذا لم يتوافر الوصول إلى الحق كان هناك نقص أو خطأ في المقدمات أو الأساليب أو المعارف أو إهمال لبعض المعارف الضرورية المتوافرة، والتي ينبغي على العقلاء الاهتداء بها وهي معايير الهداية الإلهية ومناهج الأنبياء والرسل الكرام، الذين يعانون أصحاب العقول في التوصل إلى الصواب والنجاة وسلامة المصير، وذلك عون على ترشيد العقل أو الفكر.
لذا نعى الإنسان على المقلدين تقليداً أُمّيّاً للآباء والأجداد وأصحاب السلطة والنفوذ، فقال الله تعالى عن عبدة الأوثان {بلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ . وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ . قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 22-24].
وفي آية أخرى لوم ومناقشة حادة تمس الاعتبارات العقلية، والأساليب المنطقية المغلوطة، فقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
وعلى العكس من ذلك حين استعمال الأساليب الصحيحة، قال الله سبحانه بعد إيراد الكلام الشافي عن مهمة جميع الأنبياء والرسل: {أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: من الآية 90].
وحسم القرآن الكريم الكلام في شأن ممارسة الحرية الدينية في ضوء ملامستها للحق وعدمه، فقال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29].
رابعاً:
أفق الحرية الفكرية أو حرية التعبير وضوابط استعمالها في معيار الإسلام:
الحرية الفكرية حرية مطلقة لكل إنسان، وحرية مطلقة في كل الأديان والشرائع والقوانين والدساتير الوضعية، وحرية مطلقة في جميع الحالات على السواء، ولكن بقيود معينة.
بل لا سبيل بحال إلى مصادرة هذه الحرية وممارستها، لأنها مقصورة على الإنسان ذاته فيما بينه وبين نفسه، وفي محاكماته العقلية، وبمقتضى فطرته واستقلال شخصيته، ولا يستطيع أحد من البشر في الدنيا أن يتدخل في هذه الحرية، فكل إنسان حر في تفكيره وتأملاته وقناعاته، سواء في قضاياه الخاصة أو العامة، أو في مجال الدين والاعتقاد، أو الولاء لجبهة أو جماعة أو مذهب.
ولكن حرية التعبير عن الرأي أو الفكرة ليست مطلقة كما يتصور أي إنسان، لأنه حلم أو وهم وخيال، وإنما هي حرية مقيدة ضمن دائرة الشريعة الإلهية، وضمن دائرة القانون، وبشرط مراعاة حريات الآخرين المحددة في نطاق الشريعة أو القانون [الباحث محمد منير، حق الحرية في العالم، ص 136].
ومنطلقات هذه القيود الشرعية والقانونية واحدة، وهي الحفاظ على مقتضيات النظام العام والآداب، مراعاة المصلحة العامة العليا، وتحقيق مبدأ المساواة والحق والعدل في ممارسة الحرية ذاتها للناس جميعاً، أو للشعب في داخل الدولة والضوابط العامة لممارسة الحرية الفكرية وغيرها نوعان [المرجع نفسه، ص 64]
1- ضوابط مطلقة:
وهي حماية أصول الحياة الاجتماعية، أو ما يُسمّى بقواعد النظام العام، ومرتكزات أخلاق المجتمع، وهي المساواة بالآداب العامة، لأن كل إنسان يعيش في مجتمع، واستمرار بقاء المجتمع وتقديمه يتطلب الدقة في منح الحرية، والموازنة بين المستفيدين منها، وتقدير مقتضيات المصلحة العامة، وأوضاع المستقبل، وحماية المجتمع ذاته من الانهيار والذوبان.
2- ضوابط نسبية:
وهي المطبقة في بعض الظروف الزمانية أو المكانية، أو على بعض الأشخاص، فقد توضع ضوابط لظروف استثنائية وهي حالة الحصار، وحالة الطوارئ، كما تفرض قيود على حريات بعض الأفراد للمصلحة العامة كالأجانب، والموظفين والعموميين، ورجال القوات المسلحة.
إن هذه الضوابط بنوعيها يقرها العقل، وتمليها المصلحة، وتقتضيها طبيعة المقدسات، فإن التهكم بالدين أو سب الله أو إعلان الشك فيه، وشتم الرسل والأنبياء، أو الاستخفاف بالقرآن الكريم مثلاً، أو الزندقة (وهي إبطان الكفر والدعوة السرية أو العلنية إلى معاداة الدين والتحريض على نبذه) ونحو ذلك، يعد خطراً على عقيدة الأمة، وزعزعة بنيانها، والمساس بكيانها، وترويج الفتنة والفوضى والضلال والفساد في أوساطها، وهذا نذير شر وسوء، وتدمير وتخريب.
ضوابط استعمال حرية الفكر أو التعبير في ميزان الإسلام:
هناك ضوابط كثيرة لحرية الفكر في المفهوم الإسلامي لا لذاتها وإنما في جدواها، أهمها ما يأتي:
1. التزام مفهوم الحق بالمعيار الإلهي، ومقاومة الباطل، والتوصل إلى عقيدة التوحيد.
2. توجيه حرية الفكر في سبيل الانفتاح والتقدم وتحضر الأمة، وتصفية كل مظاهر التخلف والتفرق والشتات والضياع.
3. احترام ظاهرة الاختلاف في الرأي للتوصل إلى الصواب.
4. مواكبة كل ما تقتضيه متطلبات الحضارة الإنسانية في كل عصر وزمان.
5. التحذير من خشية الناس على حساب الحقيقة، وترك المجاهرة بالحق الخالد، لقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله أو طلب منه: «لَا يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ: «يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ، ثُمَّ لَا يَقُولُ فِيهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِي كَذَا كذا وَكَذَا، فَيَقُولُ: خَشْيَةُ النَّاسِ، فَيَقُولُ: فَإِيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى، فَإِيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى» [رواه ابن ماجه].
6. مراعاة مبدأ الإسلام الإصلاحي العظيم، وهو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
7. التأسي بالمنهج النبوي الثابت في الحق العام، وهو الأخذ بنظام الشورى، وسماع النصيحة في مناقشة الأمور الحساسة، ثم الأخذ بما هو خير ومصلحة.
8. إقرار حق النقد كما جاء في أول خطبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد توليه الخلافة: "إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوموني".
9. إفساح المجال لرأي المعارضة والإصغاء لأربابها، مع محاولة إقناعهم.
10. التوسط في حل المشكلات الطارئة غير المنصوص على حكمها في ضوء مقاصد الشريعة العامة، والانضباط بسياستها وحكمتها القائمة على الوسطية والاعتدال والرحمة وحب الخير لجميع الناس.
خامساً:
الحرية في مفهوم الأديان والحضارات:
"يعتبر الدين ذلك الوضع الإلهي الذي ينظم حياة الإنسان والمجتمع، أو هو جملة الأنظمة النظرية التي تحدد صفات الذات الإلهية وجملة القواعد العملية التي ترسم طريق عبادتها" [د محمد عبد الله دراز، الدين، ص 29]، "وهو يشمل مجموعة العقائد والعبادات والأحكام والقوانين التي شرعها الله سبحانه لتنظيم علاقة الناس بربهم، وعلاقتهم بعضهم ببعض" [أ. عبد الوهاب خلاف، علم أصول الفقه، ص 237] "وبعبارة أخرى هو مجموع ما شرعه الله من أحكام سماوية منزلة على أنبيائه، وهو جامع للإيمان والإسلام والإحسان، كما في حديث جبريل عليه السلام" [أ. علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص 76].
والحضارة كما يقول مالك بن نبي رحمه الله، هي: "مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده، في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة، المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه".
وأضاف قائلاً: "إن الحضارة لا تبقى بمكونات الفن والعلم والعقل فحسب بل لا بد من الروح لتنهض الإنسانية وتتقدم".
وبعبارة أخرى:
الحضارة هي كل ما ينتجه المجتمع بصورة فردية أو جماعية من فكر وقول وعمل، أي إن كل نشاط فكري وأدبي وعلمي، سواء كان نظرياً أو علمياً، يدخل في إطار الحضارة بصرف النظر عن عقيدة هذا المجتمع بالخالق [د. مريم محمد زهيري، الحضارة الإسلامية بمفهوم الإسلام، ص 25 وما بعدها]، أي إن الذين عرفوا الحضارة بهذا التعريف أغفلوا تماماً الحياة الثانية التي يحياها البشر بعد البعث، وأهملوا أرواء الظمأ الديني أو الروحي الذي يحس به كل إنسان.
وقد عبر القرآن الكريم عن الحضارة بكلمات مترادفة، منها: "النور، الفوز، الفلاح، الهدى، الفضل، النعيم".
يظهر من ذلك أن الحضارة المعاصرة بالمفهوم الوضعي في الشرق أو الغرب ذات مفهوم مادي فقط، ولا صلة لها بالروحانيات، أما الحضارة في الإسلام فهي تقوم على عنصرين متلازمين: مادي وروحي، والمتحضر في المفهوم المعاصر المادي: هو من يستهلك أكثر، وينفق على نفسه أكثر، وهذا تصرف لا يمارسه إلا الفرد المجرد من الشعور بالآخرين، المشحون بالجشع والأنانية.
والحضارة بالمفهوم المادي قد تشبع رغبات بعض الناس على حساب الآخرين، ولكنها ليست شاملة لجميع الناس، ولا مستقبل لها، فهي مهددة بالانقراض أو الانهيار كما تنبأ كثير من الباحثين، لأنها تفتقد العنصر الروحاني الجوهري في الإنسان، فتجعله في حالة ظمأ أو عطش لإرواء تطلعاته الروحانية، كما يكثر بين أبنائها الانتحار لوجود الفراغ الديني أو الإيمان الذي ينعش النفس، ويملأ وجدانه وحواسه بمشاعر السعادة والاستقرار.
أما الحضارة الإسلامية فهي:
الحضارة الخالدة القائمة على الجمع بين متطلبات المادة والروح، وحاجات النفس والجسد، فتحقق للإنسان السعادة الغامرة في الدنيا والآخرة بسبب اقتران العقيدة مع العبادة، والمعاملة، فينجم عنها صقل الوجدان الإنساني، وهدوء البال، وراحة الضمير، وترقية الأحاسيس والمشاعر، وتهذيب النفس والسمو بها إلى مستوى حضاري عظيم وكريم وشامل.
إن الإيمان مصدر بناء الحضارة وأساس تقديمها والحفاظ عليها، لأن القوة المعنوية للإنسان أهم من قوته البدنية، وأثرها في حياته وأعماله أكبر من أثر القوة البدنية، وإن العبادات أو أركان الإسلام الخمسة من الإقرار بالشهادتين، والصلاة والصوم والحج والزكاة ذات قيمة حضارية ملموسة، تبني شخصية الإنسان، وترفع من كفاءته في العمل، وتحقيق التوازن والانسجام بين المسعى والهدف، وتوفر للإنسان رقابة ذاتية تبعثه على الإخلاص والإتقان، والتفاني في أداء الواجب والمعاملة النظيفة والصحيحة تنمو في ظل العقيدة الصحيحة، والعبادة القويمة وتنشر ظلال السعادة على النفس والآخرين.
وتتميز الحضارة الإسلامية عن الحضارة المادية بالسماحة وتجنب التعصب، عملاً بالقاعدة النبوية "الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها" [كشف الخفاء للعجلوني، ص435] أو "فإذا وجدها فهو أحق بها"، وهي ذات طبيعة متميزة عن الشرق والغرب، لا مغايرة لها، ولا تجمع بين المتناقصين، وذات بنية واحدة، وليست كثنائية الغرب.
ومقومات الحضارة الإسلامية أربعة لتحقيق الشمول والاستقرار والدوام، وهي مجموعة في قول الله تعالى في قصة قارون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 88].
أي أنها توجيه الحضارة نحو عالم المستقبل في الآخرة، وتعمير الدنيا وبناء الحضارة على عنصر الخير والإحسان، ومنع الفساد والإفساد والضرر بالناس، ويؤيد ذلك [سورة العصر: 1-3]: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
إن الحرية الفكرية في الحضارات الشرقية والغربية مطلقة ولكنها مقصورة على الماديات، وهي في الفكر اليهودي عنصرية ومتعصبة ومنغلقة على اليهودي، وفي الفكر المسيحي أو الكنسي جامدة على مسميات معينة في العقيدة لا تقبل النقاش أو الحوار ومنفتحة في شؤون الحياة الغربية لا قيود عليها، لوجود الفصل بين شؤون الدين والدنيا، بمقتضى قول السيد المسيح عليه السلام: "دع ما لقصير لقصير، وما لله، لله"
أما الحرية الفكرية في الإسلام فلها صفة العموم والشمول، فتجمع بين أمور الدنيا والدين وبين قضايا الحياة الدنيوية ومستقبل العيش في عالم الآخرة، ولا قيد عليها إلا ترك المساس بالمقدسات ومراعاة حقوق ومصالح المجتمع برمته وترك الإضرار بالآخرين، ولا حجر على ممارسة حرية الفكر في الإسلام إلا بمقدار حماية الإنسان نفسه من إلحاق الأذى بوجوده ومستقبله، من سوء تصرفه وإعمال فكرة دون الاستفادة من هداية السماء.
تعد حرية الفكر وحرية التعبير أوسع الحريات نطاقاً وأكثرها عصمة وحرمة، لأن الحكم مشاركة بين الحاكم والمحكوم مقيدة برعاية مصالح الناس وتحقيق أغراض المجتمع [د. عبد السلام الترمانيني، حقوق الإنسان في نظر الشريعة الإسلامي، ص31].
وتتقيد حرية الرأي في المعاهدات الدولية بقيود أربعة هي:
أمن الدولة، وكرامة الحكومة، وكرامة الأفراد وسلامهم وحرياتهم، وحماية الملكية الأدبية والصناعية والتجارية، ومنها حق المؤلف والرسام والنماذج (الماركات المسجلة).
ويمكن الحوار مع إتباع الأديان الأخرى ودعاة الحضارة المعاصرة على أساس ضرورة الاعتراف بالخصوصيات الثقافية المحلية لكل أمة أو نظام.
سادساً:
حرية الاعتقاد أو المعتقد:
حرية الاعتقاد: هي ترك الاختيار لكل إنسان للتدين بأي دين شاء، وإقامة شعائر ذلك الدين بالكيفية المقررة فيه بما يتفق مع عقيدته، وهذا يستتبع احترام بيوت العبادة.
ولقد صرح القرآن الكريم بالإقرار بهذه الحرية، ومنع الإكراه على اختيار المعتقد، وذلك في قول الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة: 256].
وقرّرت الشريعة الإسلامية حماية العقيدة من طريقين [الباحث محمد منير، حق الحرية في العالم، ص: 138-139]
الأول: إلزام الناس باحترام حق الآخرين في اعتقاد ما شاءوا، وفي ترك ما يريدون، طبقا لعقائدهم، فليس لأحد إكراه آخر على تغيير عقيدته، أو إيذائه بسبب ممارسة عبادته.
الثاني: إلزام صاحب العقيدة نفسه أن يعمل على حماية عقيدته، والدفاع عنها، وله الحرية في أن يهاجر من وطنه إلى أي بلد آخر، إذا عجز عن حماية نفسه، ولا فرق في ذلك بين المسلم وغير المسلم، لقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97].
وعناصر تكوين حرية التدين أو الاعتقاد ثلاثة [محمد أبو زهرة، المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، دار الرسالة]
1. تفكير غير خاضع للتقليد.
2. منع الإكراه على عقيدة معينة بتعذيب أو تهديد أو إغراء بحرام أو حلال.
3. أن يكون حراً في العمل بمقتضى دينه، لا يمنعه اضطهاد من الظهور بدينه وإقامة شعائره.
ولكن لا مانع من الحوار أو النقاش الديني بأسلوب حسن يعتمد على المنطق والعقل والقدرة على الإقناع وإقامة الأدلة والبراهين، لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل: من الآية 125].، وقوله سبحانه: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة العنكبوت: من الآية 46].
وقد حرص المسلمون في مختلف عهودهم الأولى وما تلاها ألا يتورطوا بإكراه أحد على قبول الإسلام، لعدم الفائدة من ذلك.
ولقد أعلنت المواثيق العالمية مبدأ احترام حرية العقيدة والعبادة، وجاء في المادة [أ. محمد أبو زهرة، المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، ص 193 وما بعدها] من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: "لكل الحق في حرية الفكر والضمير والدين".
عقوبة المرتد: وأما المرتد الخارج من دين الإسلام إلى الكفر، فعقابه مقصور على المسلم فقط، إما منعا من التلاعب بالأديان كما كان يفعل اليهود في العهد النبوي، فيما يصوره قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب آمِنُوا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْه النَّهَار وَاكْفُرُوا آخِره لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل عمران: 76].
أو إما بسبب اختراق وتجاوز النظام العام للدول الإسلامية، ومحاولة التشكيك في العقائد أو محاولة زرع الفتنة، وزعزعة العقيدة في النفوس، وإضمار المحاربة والعداوة للمجتمع الإسلامي، فالمرتد إنما يقتل لمحاربته وصيرورته خطراً على الإسلام، لفتحه أمام غيره ثغرة تلو ثغرة، لذا كان قتال المرتدين ومانعي الزكاة في عهد الخليفة الأول أبي بكر عملاً محكماً، حصن به حرمات الإسلام وكيانه وهيمنته، وسد الباب أمام المخربين المحاولين نقض هذا الدين عروة، وما أسهل حدوث ذلك، لو لم يستأصل هذا الداء في بدء ظهوره.
ولكن لا بد من محاكمة المرتد، واستتابته لمدة ثلاث أيام، منعاً من استعجال عقابه، وتفويت الفرصة أمامه للعودة إلى رشده، واستدراك خطئه، وسداً لذرائع لا تهام وزعم مصادرة الحرية من قبل أجهزة الإعلام في عصرنا.
سابعاً:
حرية التجنس في الإسلام والإقامة:
- التجنس أو الجنسية:
نظام حديث من أنظمة الدول المعاصرة وهو انتماء الشخص إلى دولة معينة، للتميز بين الوطني والأجنبي، أو هي الانتساب الكامل قانونياً إلى دولة معينة، أما الإقامة فهي العيش في أرض الدولة مدة مؤقتة بموجب إذن أو موافقة من السلطة المختصة فيها، سواء كانت الإقامة قصيرة أو طويلة.
والتجنس يقتضي الخضوع لأنظمة الدولة والقيام فيها بواجبات معينة، مالية وغيرها، كالاشتراك في الدفاع عن أراضيها، ومصالحها، والانخراط في الجيش النظامي، والتمتع بصفة الجنسية ومزاياها، أي في مقابل الحقوق الوطنية والاجتماعية الممنوحة للشخص.
- أما الإقامة:
فلا يطبق بموجبها على المقيم واجب المشاركة في الدفاع عن أراضي الدولة ومصالحها، كما ليس له ممارسة الحقوق السياسية المقررة للمواطنين.
والإسلام يقر من حيث المبدأ التجنس والإقامة، ولكن تقتضيها مصلحة المسلم وأسرته ومراعاة ظروفه الدينية والبلاد في هذا الموضوع قسمان: إسلامية وغير إسلامية.
أما البلاد الإسلامية والعربية: فحرية التجنس والإقامة فيها للمسلم وغيره مطلقة لا قيد عليها، لتمكن المسلم من ممارسة شعائر دينه، ومناسبة البيئة لمستقبل أسرته من زوجه وبنات وأولاد.
أما البلاد غير الإسلامية: فلا مانع من الإقامة فيها إذا تمكن المسلم من إقامة شعائره الدينية فيها، وبما أن المعاهدات الدولية تحترم وتقر حق الحرية الدينية أحد الحقوق الإنسانية الكبرى، فيستطيع المسلم ممارسة شعائره الدينية من صلاة فردية وصلاة جمعية وعيد وأذان وإقامة ونحوها.
فإن عجز المسلم أو تعذر عليه إقامة هذه الشعائر في بلد غير إسلامي وجبت الهجرة إذا قدر عليها إلا لمانع كضعف أو أسر، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 97-99].
ومع تمكن المسلم من إقامة شعائر دينه في بلد إسلامي، فالأصل جواز الإقامة في ذلك البلد لضرورة أو حاجة، وعدم جوازها لغير ضرورة أو حاجة أو مصلحة تتعلق بنشر أو تبليغ الدعوى الإسلامية.
وعلى هذا تجوز الإقامة في ديار غير إسلامية في حالات الآتية:
1- الإقامة لطلب العلم ولاسيما العلوم الحديثة والتطبيقية والصناعية والزراعية والحربية، وللعلاج ونحو ذلك من المقاصد الحاجية.
2- الإقامة لنشر أو تبليغ الدعوة الإسلامية، لأن المسلمين مطالبون بتبليغ هذه الدعوى لجميع سكان المعمورة الأرضية.
3- الإقامة لتقوية المسلمين في ديار غير إسلامية، لأن غير المسلمين أحيانا قد يستضعفون المسلمين، أو يضايقونهم أو يعتدون عليهم، أو من أجل الحفاظ على حق المواطن في بلد إسلامي احتله الأعداء كفلسطين وكشمير والشيشان ونحوها، فيجب البقاء في تلك الديار لأن العدو يريد إجلاء هؤلاء السكان الأصليين واحتلال أراضيهم وديارهم وممتلكاتهم كما قرّر جماعة من فقهاء الإسلام [بجيرمي الخطيب، من كتب الشافعية، 4/238].
قال الماوردي:
"إذا قدر المرء على إظهار دينه في بلد من الكفر، فقد صارت البلدة دار الإسلام" [الأحكام السلطانية، الماوردي، ص137]. أي تكون فيها أفضل من الرحلة، لما يرجى من دخول غيره في الإسلام، وهذا الحكم سائغ بقاعدة المصالح المرسلة التي قال بها علماء المالكية والحنابلة [انظر كتبهم في أصول الفقه. الشاطبي، الموافقات وابن اللحام، المختصر في أصول الفقه].
4- الإقامة لعجز أو عذر من أسر أو مرض أو عسر الحصول على إقامة في بلد آخر، وهذا يجيز الإقامة مطلقاً، فإن حمل المسلم على نفسه وتكلف الخروج، كان له أجر.
وعلى كل حال؛ تكون الإقامة مؤقتة لا طويلة ولا مؤبدة، لما يأتي من الأحاديث الدالة على وجوب الهجرة في ديار الكفر أو الأعداء.
أما التجنس:
فالأصل فيه الحرمة بالحصول على جنسية دولة غير إسلامية إلا لضرورة، لأن المسلم مطالب حينئذ بالمشاركة في القتال تحت راية غير إسلامية، سواء كان القتال لغير مسلمين أو لمسلمين ولأنه يخضع لقوانين غير إسلامية، ولقضاء حاكم غير مسلم، ولاسيما في أحكام الأسرة (الأحوال الشخصية) والله تعالى يقول: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: من الآية 141].
ولأن المسلم مع زوجته وأولاده يتأثرون غالباً بظروف البيئة غير الإسلامية، ومن تبرج في الغالب، وتقليد غير المسلمين أحياناً في الاحتفالات بأعيادهم كعيد الميلاد ورأس السنة الميلادية وعيد الفصح ونحوها، أو ترداد شعاراتهم ولا شك بأن لهذه الاحتفالات أو الشعارات تأثير على عقيدة ومشاعر الأولاد، وهذا ما حذّر منه النبي صل الله عليه وسلم في جملة أحاديث صحيحة، منها:
* «من جامع المشرك -أي قام معه وعاش في جواره- وسكن معه فهو مثله» [رواه أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أبوداوود، سنن أبي داوود. ج3 ص 123] قال الشوكاني [الشوكاني، نيل الأوطار 8/26]: "فيه دليل على تحريم مساكنة الكفار ووجوب مفارقتهم والحديث وإن فيه مقال أي ضعيف، ولكن يشهد لصحته قوله تعالى: {لا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء: من الآية 140]".
* أنا بريء من كل مسلم يًقيم بين أظهر المشركين»، قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: «لا تتراءى ناراهما» [رواه أبو داود والترمذي عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه. وأبوداوود، سنن أبي داوود، ج4 ص 298، والترمذي، سنن الترمذي، ج2 ص 213 برقم 1234] أي ينبغي أن يكونا بوضع بحيث تكون نارا كل واحد منها في مقابلة الأخرى على وجه لو كانت متمكنة من الإبصار لبصرت الأخرى، فإثبات الرؤية للنار مجاز.
* «لا يقبل الله من مشرك عملاً بعدما أسلم، أو يفارق المشركين» [رواه النسائي وابن ماجه من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعاً. النسائي، سنن النسائي، ج2 ص 321 وابن ماجة، سنن بن ماجة، ج3 ص 345].
فإن وجدت ضرورة للحصول على جنسية دولة أجنبية غير مسلمة كمنع المسلم من دخول وطنه الأصلي لتهمة سياسية أو جنائية ونحوها، جاز ذلك لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها وحينئذ يتأتى الجهاد من المسلم في هذه الحالة باللسان والحجة والبرهان والدعوة إلى الإسلام بمختلف الأساليب الممكنة.
خاتمة:
بعد هذه الجولة العلمية نخلص إلى النتائج الآتية:
1- لكل شخص الحق في أن يفكر، ويعتقد ويعبر عن فكره ومعتقده دون تدخل أو مصادرة من أحد شريطة أن يلتزم الحدود العامة التي أقرتها الشريعة.
2- من حق كل فرد ومن واجبه أن يعلن رفضه للظلم وإنكاره له، وأن يُقاومه في حدود ما تسمح به الشريعة.
3- احترام مشاعر المخالفين في الدين من خلق المسلم فلا يجوز له أن يسخر من معتقدات غيره ولا أن يستعدي المجتمع عليه.
4- لكل فرد الحق في نشر المعلومات والحقائق الصحيحة باستثناء ما يكون في نشره من خطر على أمن المجتمع والدولة.
5- لكل فرد الحق في حرية الاعتقاد وحرية العبادة وفقاً لمعتقده.
6- لكل فرد الحق في المشاركة بصفة فردية أو مع غيره في حياة الجماعة، دينياً، واجتماعياً، وثقافياً، وسياسياً، وأن ينشئ ما يرغب فيه من مؤسسات ويصطنع ما يشاء من الوسائل الضرورية لممارسة هذا الحق.
7- لكل فرد الحق ومن واجبه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يطالب المجتمع بإقامة المؤسسات التي تُهيئ للأفراد الوفاء بهذه المسؤولية تعاوناً على البر والتقوى.
8- لكل فرد الحق في الاعتقاد الديني والفكري وحرية العمل وإبداء الرأي بالقول و الكتابة أو غيرهما.
9- لكل فرد الحق في إنشاء الصحف والمجلات والمطبوعات في حدود أحكام الشريعة.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وَوفقنا لصالح الأعمال
ـــــــــــــــــ
http://ar.islamway.net/article/13689?ref=fb